سورة الانفطارمكية كلها بإجماعهم وهي تسع عشرة ءاية{إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ (1)} قال الفراء: انفطارها انشقاقها.{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2)} أي تساقطت من مواضعها.{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ(3)} قال الرَّبيعُ بنُ خَثيم: فجرت فاضت، رواه البخاري معلقًا، قالالحافظ في الفتح :"والمنقول عن الربيع "فجرت" بتخفيف الجيم وهو اللائقبتفسيره المذكور" اهـ.{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ(4)} أي أُثيرَت وقُلِبَ أسفلُها أعلاها وباطنُها ظاهرَها فتنشق ويُبْعثمن فيها من الموتى أحياء، وجواب {وَإِذَا} هو قولهتعالى:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} أي ما قَدّمَتْمن طاعة وأخَّرت من حق الله، قاله ابن عباس.{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)} والمرادبالإنسان هنا الإنسان الكافر، وقيل: أنزلت في أبيّ بن خلف، وهذا خطابللكفار أي: ما الذي غَرَّك وخدعك حتى كفرت بربك الكريم الذي تفضَّل عليكبأنواع الإحسان، والغَرور كل ما يغرُّ الإنسانَ من مال وجاه وشهوة وشيطان،وقيل: الدنيا تغرُّ وتضُرُّ وتَمُرُّ، والمراد ما في هذه الدنيا مما لاخير فيه، قال البيضاوي: وجواب السؤال غرَّه شيطانه، ومن معاني اسمه تعالىالكريم أنه الصَّفوح الذي لا يعاجِل بالذنب، وقد ذكره الله تعالى للمبالغةفي المنع عن الاغترار فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم وتسوية المطيعوالعاصي فكيف إذا انضم له صفة القهر والانتقام، وكذا للإشعار بالذي بهيغرُّه الشيطان فإنه يقول له: افعل ما شئت فربك الكريم لا يعذّب أحدًا،
وقد قال محمد بن صبيح بن السَّمَّاك الزاهد القدوة:
يا كاتمَ الذنبِ أما تستحي * والله في الخلوةِ رائِيكا
غَرَّكَ من ربكَ إِمهالُهُ * وسَتْرُهُ طولَ مَساوِيكا
وقال ذو النون المصري رضي الله عنه :"كم من مغرور تحت السَّتر وهو لا يشعر" اهـ. نسأل الله المسامحة والستر في الدنيا والآخرة.
{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} قوله {الَّذِي خَلَقَكَ} أي: الذي قدّر خلقَك من نطفة،
{فَسَوَّاكَ} أي: جعلأعضاءك سليمة مسوَّاة مُعدَّة لمنافعها من غير تفاوت فلم يجعل إحدى اليدينأطول ولا إحدى العينين أوسع ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود
قال البخاري :"وقرأ الأعمش وعاصم
{فَعَدَلَكَ} بالتخفيف،وقرأه أهل الحجاز بالتشديد وأراد معتدل الخلق، ومن خفف يعني في أي صورةشاء إِما حَسَنٌ وإما قبيح أو طويلٌ أو قصير". وفي الفتح ما نصه :"وحاصلالقراءتين أن التي بالتثقيل من التعديل والمراد التناسب، وبالتخفيف منالعدل وهو الصرف إلى أي صفة أراد" اهـ
{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8)} فقوله {فِي أَيِّ صُورَةٍ(8)} متعلق {بِرَبِّكَ(6)} أيأن ربك هو الذي جعلك على أي صورة اقتضتها مشيئته تعالى من الصور المختلفةفي الحُسْنِ والقُبْحِ والطول والقِصَر والذكورة والأنوثة والشَّبَه ببعضالأقارب دون بعضٍ.
{كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدّينِ (9)} اعلمأن الله سبحانه لما بيَّن بالدلائل العقلية صحة القول بالبعث والنشورفرَّع عليها شرح بعض تفاصيل الأحوال المتعلقة بذلك فقوله تعالى: {كَلاَّ(9)} فيها معنى الردع والزجر عن الاغترار بكرم الله بتزيين الشيطان وقوله تعالى {بل تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)} أي تكذِّبون بيوم الحساب والجزاء وتزعمون أنه غير كائِن. وقرأ أبو جعفر: "بل يكذبون" بالياء.
ثم أعلمهم الله أن أعمالهم محفوظةٌ فقال تعالى {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)} أي من الملائكة يحفظون أعمالكم وأقوالكم.
{كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)} فهمكرامٌ على الله تعالى يكتبون على العباد أعمالهم بل وأفعال قلوبهميكتبونها بإطلاع الله لهم عليها ليجازوا عليها، وفي تعظيم الكتبة بالثناءعليهم تعظيم لأمر الجزاء.
{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} أي لا يخفى عليهم شىء من أعمالكم من خير أو شرٍ فيكتبونه عليكم.
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} البِرُّ:بالكسر هو الخير والفضل، والأبرار: جمع البار. قال الراغب: "فيقال بَرَّالعبدُ ربَّه أي توسَّع في طاعته فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعة،وذلك ضربان: ضرب في الاعتقاد وضربٌ في الأعمال،
وقد اشتمل عليه قوله تعالى:{لَّيْسَالْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِوَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِوَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءاتَى الْمَالَ عَلَىحُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَالسَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءاتَىالزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَفِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَصَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (سورة البقرة) فإِن الآيةمتضمنة للاعتقاد والأعمال الفرائض والنوافل، فالمؤمنون الصادقون المتقونيكون تنعمهم في الدنيا بالطاعة والرضا بالقضاء والقناعة وفي الآخرة بنعيمالجنة.
{وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} الفجار:جمع فاجر، والمصدر الفجور، وهو شَقُّ سِتر الديانة، قاله الراغب. والمرادأن الكفار جحيمهم في النار المحرقة عقابًا لهم على أعمالهم.
{يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)} أي يدخلون الجحيم فيقاسون شدة حرها ولهيبها يوم الدين أي يوم الجزاء على الأعمال.
{وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)} والمراد: أن الكفار لا يغيبون عن النار فيتحقق الوعيد ويخلدون في جهنم إلى ما لا نهاية له، والمعنى: يدخلونها فلا يخرجون منها.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)} قال الرازي: اختلفوا في الخطاب في قوله {وَمَا أَدْرَاكَ}فقال بعضهم:هو خطاب للكافر على وجه الزجر له، وقال الأكثرون: إنه خطابللرسول. والمراد بيوم الدين: يوم الجزاء، وكُرّر تفخيمًا لشأنه وتعجيبًا،أي بما هو كُنْهُ أمره بحيث لا تدركه دراية دارٍ، قاله البيضاوي، قالالرازي في مختار الصَّحاح: "كُنْهُ الشىء: نهايته".
{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ (19)} أييوم لا يملك مخلوق لمخلوق نفعًا إلا الشفاعة بإذن الله فلا تملِكُ نفسكافرة لنفس كافرة شيئًا من المنفعة، والأمر يومئذ لله لا ينازعه فيه أحد،وفيه إشارة إلى أن الله موصوف بالوجود والبقاء وصفاته تعالى أزلية أبديةبأزلية الذات المقدس وأبديته، فالله متنزه عن التغير لأن التغير من حالإلى حال صفة المخلوق فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر والله منزه عن صفاتالمحدثات، مهما تصوَّرت ببالك فالله بخلاف ذلك أي لا يشبه ذلك، قاله ذوالنون المصري رضي الله عنه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: "يومُ" بالرفع، والباقون بالفتح، قال الزجاج: من رفع "يوم" فعلى أنه صفة لقوله تعالى:{يوم الدين}، ويجوز أن يكون رفعه بإضمار "هو"، ونصبه على معنى: "هذه الأشياء المذكورة تكون".
والله سبحانه وتعالى أعلم.