السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنه
قد شاع بين الصوفية مصطلحات تدل على عمق العلاقة بين الشيخ والمريد، فسموا
بداية الرباط بـ: العهد، البيعة، التحكيم، إلباس الخرقة، الطريق، وهي
ألفاظ لها دلالات تربوية سلوكية عميقة، تعني بحسب الظاهر ابتداء الرابطة
بين المريد السالك والشيخ الكامل، وبحسب الحقيقة والباطن ربط المريد
بالمراد سبحانه .
ويرجع العهد في اللغة إلى عدة معانٍ منها:
الوصية، والضمان، والأمر، والرؤية، والمنزل. فكل ما عُوهِد الله عليه، وكل
ما بين العباد من المواثيق هو عهد، وأمر اليتيم من العهد، وكذلك كل ما
أَمَر اللهُ به ونَهَى عنه. وفي حديث الدعاء: "وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ
وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْت" .
والعهد في الاصطلاح - على ما عرفه الجرجاني -: "حِفْظُ الشيء ومراعاته حالا بعد حال" .
وهذا
المعنى متحقق في العهد عند الصوفية، حيث يُقْصَد بأخْذ العهد على المريد
أن يحافظ على الواجبات والآداب الشرعية، ويراعي ما يُلقِّنه له شيخه من
الأذكار والأوراد والمجاهدات حالا بعد حال، ولا يهملها ولا يغفل عنها،
فالمقصود بالعهد عند الصوفية هو التأكيد على السالك والمريد بالانتقال من
حياة الغفلة وغلبة الشهوات إلى حياة التوبة والمراجعة للنفس والتفتيش عن
عيوبها والإقبال على الله، فيتحقق بهذا العهد التأكيد على الانتقال من حال
إلى أخرى، ومن مرحلة إلى مرحلة جديدة.
يقول الشيخ السهروردي – الذى
وصفه الذهبى بأنه الإمام العالم القدوة الزاهد المحدث شيخ الإسلام - في
لبس الخرقة، وفيها معنى العهد والمبايعة: "ارتباطٌ بين الشيخ وبين المريد،
وتحكيمٌ مِن المريد للشيخ في نفسه، والتحكيم سائغ في الشرع لمصالح دنيوية،
فماذا ينكر المنكر للبس الخرقة على طالب صادق في طلبه، يقصد شيخا بحسن ظن
وعقيدة، يحكمه في نفسه لمصالح دينه، يُرْشِدُه ويهذبه، ويعرفه طريق
المواجيد، ويُبَصِّرُه بآفات النفوس وفساد الأعمال ومداخل العدو" .
وفي
معنى العهد أيضا البيعة ، فهي مدخل الصحبة المباركة بين الشيخ المربى
ومريد الوصول إلي معرفة الحق تبارك وتعالى، وبها يسري تأثير الشيخ في
مريده بالحال والمقال، ويتحقَّق الرباط الوثيق الذي يستهدف تزكية النفس
الإنسانية وصلاح القلب والروح.
وذلك لأنه لا يكفي عند الصوفية في
سلوكهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى مجرَّدُ العلم، فمجرد قراءة كتب
التصوف عندهم - بلا معاناة لتهذيب النفس ومجاهدتها - إنما تُعَدُّ متعة
ذهنية، وثقافة عقلية، قد تشارك فيها النفس الأمارة بالسوء، فتكون طريقا
إلى الضلالة طردا أو عكسا، أما المنح الروحية من الله تعالى فهي نتيجة
الجهود والأعمال؛ فالصوفية أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، وعندهم لم ينل
المشاهدة من ترك المجاهدة.
فالسائر في طريق الله سبحانه لابد له
مِن تَرْك المرغوبات والمألوفات، ومراعاة الأنفاس، ثم لابد له من زادٍ وهو
التقوى، وسلاح يتقوَّى به على عدوه اللدود وهو الذكر، ومركوب يُقَصِّر
عليه وعثاء السفر وهو الهمّة.
ولا يستقيم السير مع كل هذا إلا
بدليل، وهو الأستاذ المتَّصف بكمال المتابعة لسيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم، الكامل في علوم الشريعة والطريقة والحقيقة، البالغ حدَّ
التكميل فيها، لعلمه بآفات النفوس وأمراضها وأدوائها، ومعرفته بدوائها،
وقدرته على شفائها والقيام بهداها إن استعدت ووُفِّقِت لاهتدائها.
فالشيخ
هو الأستاذ الروحي والمربي الفاضل الذي سلك طريق الحق، وعَرَفَ المخاوف
والمهالك والحدود، فتولَّى تربية المريدين والإشارة عليهم بمستلزمات
السلوك، ومقتضيات الوصول إلى قرب الخالق عز وجل، ولابد أن يكون الشيخ قد
أَخَذَ الطريقَ عن شيخٍ سابقٍ، بحيث تتسلسل متابعته إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ويكون قد ذاق حقائق الطريق وتخلَّق بأخلاق النبي عليه
الصلاة والسلام، وانتقلت إليه خبرات شيوخه عن شيوخهم في كيفية ترتيب
السلوك وتربية المريدين .
وقد اشتهرت عباراتهم "مَن لا شيخَ له
فالشيطان شيخه". فمَن أراد السلوك إلى الله على يد بعض الواصلين وقد يسرَّ
اللهُ له مَن هو كذلك، فعليه أن يَلْزِم نفسَه طاعته والدخول تحت أوامره
ونواهيه.
فإن الشيخ المربي يتعهَّد السائرَ إلى الله بالتوجيه
ويرشده إلى الطريق الحق، ويُضيء له ما أظْلَم من جوانب نفسه، حتى يَعْبُد
الله تعالى على بصيرة وهدى ويقين. فالمريد يبايع الشيخ المربي، ويعاهده
على السير معه في طريق التخلي عن العيوب والتحلي بالصفات الحسنة، والتحقق
بركن الإحسان والترقي في مقاماته.
وفي كتاب الله ما يدل على أهمية
الشيخ المربى فقال سبحانه وتعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]
فدل على أن قضية المعلم الهادي والشيخ المربى ضرورة لزومية طبعًا وشرعًا.
ومن
هنا أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء:
15]، ولم يدع الله الناس لأفكارهم وحدها وإن سمت، فإن العقل مهما بلغ فهو
محل للخطأ، ولأن العلم وحده قد يكون طريق الهلاك، والأدلة شتى في تواريخ
الفلاسفة والمفكرين بين العقليين وأصحاب المذاهب الاجتماعية المختلفة
والواقع المكرر.
ومن هنا وُجِد الإشراف والتوجيه البشري في كل شيءٍ سواء أكان وظيفة أم تجارة أم تعليما أم احترافا أم إدارة أم غير ذلك .
وحِفْظُ
العهد هو الوقوف عند ما حدَّهُ اللهُ تعالى لعباده فلا يفقد حيث أُمر، ولا
يوجد حيث نُهي، وحفظ عهد الربوبية والعبودية هو ألا ينسب كمالا إلا إلى
الرب، ولا نقصانا إلا إلى العبد.
فالعهد في حقيقته عهد الله، واليد
يد الله :{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ
يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، ومن هنا كان التحذير من
عاقبة النكوص والمخالفة ونقض العهد: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ
عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] ، فالعهد الظاهر عهد الشيخ، والعهد الباطن
الحقيقي هو عهد الله سبحانه وتعالى.
فإذا اتضح معنى العهد الصوفي
في اللغة وفي عرف الصوفية، بقي سؤال، وهو: هل لهذا العهد الصوفي توجيه
شرعي، وتخريج يجعله منسجما مع أصول الشرع الشريف؟
والجواب: نعم له تخريج شرعي من نصوص الكتاب والسنة:
فأما
القرآن، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا
يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ
فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ
عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10].
قال صاحب تفسير [روح البيان]: .
فبيعة
الخلافة الإسلامية أو بيعة الحكام لها اشتراك معنوي ببيعة الشيخ والمربي
من حيث إنه اشتُرط في كل منهما الاجتماع على القيام بأمر الله والبعد عن
نواهيه، والمتابعة فيما أمروا به.
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء:34]، فالعهد
المذكور عام شامل أنواع البيعة الثلاثة التي ذكرت آنفا، ومنها البيعة بين
الشيخ المربي ومريديه.
وتخصيص الآيات الواردة بصورة معينة للبيعة دون الأخرى- تخصيص بلا مخصص ومحض تحكم لا وجه له.
ومن السنة النبوية ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: .
وعن
يعلى بن شداد قال: حدثني أبي شداد رضي الله عنه وعبادة بن الصامت حاضِرٌ
يُصَدِّقه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: . وقد ذكر
الشعراني أن في الحديث دليلا لما يفعله الشيوخ من تلقينهم للذكر لجماعة
معا .
وعن بشر بن الخصاصية رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم لأبايعه، قال فاشْتَرَطَ عليَّ شهادةَ أنْ لا إله إلا اللهُ
وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وأنْ أُقِيمَ الصلاةَ، وأنْ أُؤدِّيَ
الزكاةَ، وأنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الإسلام، وأنْ أَصومَ شَهْر رمضان، وأنْ
أُجاهِد في سبيل الله، فقلت: يا رسول الله، أما اثنتان فو اللهِ ما
أطيقُهما الجهادُ والصدقةُ. فإنهم زَعَمُوا أنه مَن ولَّى الدُّبر فقد
بَاءَ بغضبٍ من الله، فأخاف إن حَضَرَت تلك جَشِعَت نفسي وكَرِهَتِ
الموتَ. والصدقة، فو اللهِ ما لي إلا غُنَيمَةٌ وعشرُ ذود هُنَّ رِسْلُ
أهلي وحمولتهم . قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حرَّك
يده، ثم قال: فلا جِهَادَ ولا صَدَقَة! فلِمَ تَدْخُل الجنَّةَ إذًا؟!
قال: قلت: يا رسول الله أنا أبايعك. قال: فبايعت عليهن كلهن .
وروي
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله اشْتَرِطْ
عليَّ فأنت أعْلَم بالشرط. قال: أُبَايعُكَ علَى أَنْ تَعْبُدَ اللهَ لا
تُشْرِكُ بِه شِيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ،
وَتَنْصَحَ المُسْلِمَ، وَتَبْرَأَ مِنَ الشِّرْكِ" . وعن جرير أيضا قال: .
يستفاد
مما ذكر من آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن
العهد الصوفي المذكور يمكن أن يُخَرَّج على هذه الأصول الشرعية، ولما فيه
من التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [المائدة :2]
وعلى هذا فليس
في العهد الصوفي بهذا الاعتبار من مخالفة شرعية، ولا يعد متعارضا مع أصول
الشريعة، ونصوص الكتاب والسنة تشهد له، وفقنا الله لطاعته في السر والعلن.
والله أعلم.