وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الأموي

وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الأموي




الزمان/ الجمعة 25 رجب - 101 هـ
المكان/ دير سمعان ـ حمص ـ الشام
الموضوع/ وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الأموي
الأحداث -- ثبت بإسناد صحيح في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 'إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها'، وصاحبنا هنا في هذه الصفحة من صفحات التاريخ هو المجدد الأول لهذه الأمة كما أجمع أهل العلم، وهو من الشهرة بمكان يجعلنا نتحير في كيفية الترجمة لهذه الشخصية العظيمة، ولكن سنحاول تغطية شريط حياته في نقاط مختصرة.
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو حفص القرشي الأموي، أمير المؤمنين، وأمه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، يقال له أشج بني مروان، ولد سنة 61هـ بمصر عندما كان أبوه في مصر، ونشأ في نعيم وترف في كنف أبويه، وبان حاله منذ صغره، عندما دخلت عليه أمه وهو غلام صغير وهو يبكي، فقالت له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، فبكت أمه،وعلمت أن له شأنًا، فأوعزت لأبيه أن يعهد إليه برجل صالح يعلمه ويؤدبه، فدفعه أبوه إلى صالح بن كيسان يؤدبه، فأحسن تأديبه وتربيته، من ذلك أن عمرًا قد تأخر يومًا عن صلاة الجماعة، فقال له معلمه: ما شغلك؟ فقال عمر: 'كانت مرجِّلتي تسكن شعري'، فقال معلمه: 'قدمت ذلك على الصلاة؟' فما كان منه إلا أن حلق له رأسه بعد أن استأذن أباه.
ولما شب عمر قليلاً انتقل إلى معلم آخر هو الفقيه الكبير عبيد الله بن عبد الله، واستمر على ذلك فترة، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب، وإن أباه لما ولي مصر وعمر حديث السن، فأراد أبوه أن يصحبه معه لمصر، فقال له عمر: 'يا أبة! أو غير ذلك؛ لعله أن يكون أنفع لي ولك؟ قال: ما هو؟ قال: ترحلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها وأتأدب بآدابهم' فأرسله أبوه إلى المدينة، فقعد مع مشايخ قريش، وتجنب شبابهم حتى ذاعت شهرته، وكان داخلاً المسجد النبوي ذات مرة، فقال رجل نم القوم: 'بعث الفاسق لنا بابنه هذا يتعلم الفرائض والسنن، ويزعم أنه لن يموت حتى يكون خليفة ويسير سيرة عمر بن الخطاب!' فقال راوي الخبر: 'والله ما مات حتى رأينا ذلك فيه'.
لما مات أبوه أخذه عمه الخليفة عبد الملك بن مروان، فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي امرأة صالحة عابدة، ولما مات عبد الملك حزن عليه عمر حزنًا شديدًا، ولجميل أخلاقه وصفاته الصالحة عندما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة استمرت منزلة عمر كما هي، فولاه الوليد المدينة ومكة والطائف من سنة 86 هـ حتى سنة 93هـ، وأقامه على موسم الحج أربع مرات، وكان خلال ولايته للمدينة من أحسن الناس معاشرة وأعدلهم سيرة، كان إذا وقع أمر مشكل جمع فقهاء المدينة العشرة، وكان لا يقطع أمرًا دونهم؛ خاصة سعيد بن المسيب ـ، ولما عزله الوليد عن المدينة بدسيسة من الحجاج الثقفي خرج منها، والتفت خلفه ثم بكى وقال لمولاه: 'يا مزاحم! نخشى أن نكون ممن نفت المدينة'.
ولما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة كان عمر بن عبد العزيز بمثابة الوزير الذي لا يقطع سليمان أمرًا بدونه، لذلك فإن سليمان اختاره عن سائر إخوته وجعله الخليفة من بعده، وأمر وزيره رجاء بن حيوة ـ وكان وزير صدق لبني أمية ـ أن يقوم بأعباء البيعة، وأن يضرب عنق من يخالف الأمر، حتى لو كان من إخوته! وحتى يضمن سكوتهم جعل الأمر بعد عمر بن عبد العزيز لأخيه يزيد بن عبد الملك، وبالفعل قام رجاء بن حيوة بجهد مشكور في تلك البيعة، ولما علم عمر بالأمر استرجع قائلاً: 'إنا لله وإنا إليه راجعون'، وهنا بدأ طور جديد ومختلف في حياة عمر بن عبد العزيز، وهو طور الخلافة.
تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة في العاشر من صفر سنة 99 هـ، وأول ما ظهر من خلافته الراشدة أنه صعد المنبر، وعرض على الناس خلع نفسه حتى يختاروا من يريدونه، فصاحوا جميعًا: بل نختارك أنت!، فنزل، فجاءوه بمواكب الخلافة، فأبى أن يركبها، وركب دابته وانصرف مع الناس حتى دمشق، فمالوا به إلى دار الخلافة، فقال: 'لا أنزل إلا في منزلي'، واجتهد رحمه الله في مدة خلافته على قصرها حتى رد المظالم، حتى أنه رد فص خاتم كان في يده، وقال: 'أعطانيه الوليد من غير حقه، وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع، حتى أنه ترك التمتع بزوجته الحسناء فاطمة بنت عبد الملك، وكان دخله في السنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فلما ولي الخلافة صار أربعمائة دينار، وكان قبل الخلافة يؤتى بالقميص الرفيع اللين جدًا فيقول: 'ما أحسنه لولا خشونة فيه'، فلما ولي الخلافة كان يلبس القميص الغليظ المرقوع، ولا يغسله، ويقول: 'ما أحسنه لولا لينه'.
وكان مشغولاً بأمر الرعية جدًا؛ ينصفهم ولو من أهله وأقربائه، وصرف إلى كل ذل حق حقه، وكان مناديه في كل يوم ينادي أين الغارمون، أين الناكحون، أين المساكين، أين اليتامى حتى أغني كل هؤلاء!، وكان ولده عبد الملك عونًا له على الطاعة ورد المظالم.
أما عن ورعه وخوفه من الله فلقد سارت بأخباره الركبان، فلقد كان شديد الخوف من الله، كثير البكاء حتى أنه بكى دمًا، وكثيرًا ما كان يبكي في الدار، فيبكي أهل الدار لبكائه، وكان كلما ذكره أحد بأمر الرعية والمسئولية أمام الله عز وجل بكى حتى يُغشى عليه، وكان ورعه مضربًا للأمثال. دخل على امرأته يومًا فسألها أن تقرضه درهمًا، ليشتري به عنبًا فلم يجد عندها شيئًا، فقالت له: 'أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري لنا به عنبًا؟ فقال: 'هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غدًا في نار جهنم. ولم يأخذ أي شيء من بيت مال المسلمين حتى أنهم قد شووا له لحمًا في مطبخ المسلمين فرفض أكلها، وكان لا يقبل هدية من أحد، ويقول: 'إن الهدية كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، أما نحن فهي لنا رشوة' لذلك كان يوسع النفقة على عمال ليتفرغوا لأشغال المسلمين، وكان في غاية التواضع؛ يخدم نفسه بنفسه، ولربما انطفأ السراج فيقوم بنفسه ليوقده ولا يوقظ أحدًا من خدمه، وكان يجتمع كل ليلة إليه أصحابه من الفقهاء فلا يذكرون إلا الموت والآخرة ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة، وكان عمر يعطي من اقطع إلى المسجد الجامع من بلده للفقه ونشر العلم والقرآن في كل عام من بيت المال مائة دينار.
أما عن ثناء الناس عليه فلقد أجمع أهل العلم والناس كلهم على فضله وزهده وورعه وديانته وعدله وقيامه بأمر الخلافة على أفضل ما يكون، وأجمع أهل العلم قاطبة على فضله، وأنه من أئمة العدل وأحد الخلفاء الراشدين المهديين، ذلك مع عله الغزير، حتى قال ميمون بن مهران: 'كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة، وكان هو معلم العلماء'، وقال عنه الصحابي الجليل أنس بن مالك: 'ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى' ـ يعني عمر بن عبد العزيز ـ . وقال الإمام أحمد بن حنبل: 'لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز'، وقال ربيعة الرأي: 'والذي نفسي بيده، ما أخطأ عمر بن عبد العزيز قط' ـ يعني المسائل الفقهية ـ. وقال عنه مالك بن دينار: 'يقولون مالك زاهد، وأي زهد عنده به إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها'. وبالجملة، أثنى عليه الناس ثناءً كثيرًا جدًا يحتاج إلى مجلدات لسرده.
أما عن سبب وفاته، فقيل أن سبب وفاته مرض السل، وقيل أن سبب وفاته أن مولى له وضع السم في الطعام نظير ألف دينار، فحصل له بسبب ذلك مرض، وأعجب شيء أن عمر بن العزيز علم أن خادمه سمه، فاستدعاه وقال له: 'ويحك! ما حملك على ما صنعت؟ فقال: ألف دينار أعطيتها، فقال: هاتها، فأحضرها، فوضعها في بيت المال، ثم قال: اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك'. وأثناء مرضه قيل له: هؤلاء بنوك ـ وكانوا اثني عشر ـ ألا توصي لهم بشيء؟ فإنهم فقراء. فقال: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين}؛ والله لا أعطيهم حق أحد وهم بين رجلين؛ إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فما كنت لأعينه على فسقه، فقال الراوي: 'فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك مع كثرة ما ترك لهم من الأموال يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز؛ لأن عمر وكل ولده إلى الله عز وجل، وسليمان وغيره وكلوا أولادهم إلى ما تركوا لهم'.
واستمر مرض عمر بن عبد العزيز عشرين يومًا، وهو في السياق، قيل له: يا أمير المؤمنين! لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتًا دفنت في القبر الرابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فقال: 'والله لأن يعذبني الله بكل عذاب إلا النار فإنه لا صبر لي عليها أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل'. ولما احتضر قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: 'إلهي، أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت ـ ثلاثًا ـ ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه وأحدّ النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، فقال: 'إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جان، ثم قال لأهله: اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك، وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: 'مرحبًا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قرأ قوله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين} ثم هدأ الصوت، فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوي إلى القبلة وقبض، رحمه الله، وذلك في يوم 25 رجب سنة 101 هـ.
من أعجب ما يروى عن عدل عمر بن عبد العزيز أن الأسد والغنم والوحش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منهم ذئب فعدا عليها، فقال الراعي: 'إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك' فحسبوا هذا اليوم فوجدوه أنه يوم أن مات عمر بن عبد العزيز.

عن مفكرة الاسلام
المصدر: منتديات ملاك روحي - من قسم: التاريخ والجغرافيا والحضارات